فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فإِذا برق البصر}
قرأ نافع وأبان عن عاصم {برق} بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدّة شخوصه، فتراه لا يطرِف.
قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت.
وقال الحسن: هذا يوم القيامة.
وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة {فإِذا برق البصر وخسف القمر}.
والباقون بالكسر {برق} ومعناه: تحيّر فلم يطرِف؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما.
قال ذو الرمّة:
ولو أنّ لُقْمان الحكيم تعرّضتْ ** لِعينيهِ ميٌّ سافِرا كاد يبرق

الفرّاء والخليل: {برق} بالكسر: فزِع وبهت وتحيّر.
والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت: قد برق فهو برق؛ وأنشد الفرّاء:
فنفْسك فانع ولا تنعنِي ** وداوِ الكُلُوم ولا تبرق

أي لا تفزع من كثرة الكُلُوم التي بك.
وقيل: برق يبرق بالفتح: شقّ عينيه وفتحهما.
قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الكلابيّ:
لما أتانِي ابن عُميرٍ راغِبا ** أعطيتُه عِيسا صِهابا فبرق

أي فتح عينيه.
وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى.
قوله تعالى: {وخسف القمر} أي ذهب ضوءه.
والخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوءه.
ويحتمل أن يكون بمعنى غاب؛ ومنه قوله تعالى: {فخسفْنا به وبِدارِهِ الأرض} [القصص: 81] وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: {وخُسِف الْقمر} بضم الخاء وكسر السين يدل عليه {وجُمِع الشّمْسُ والْقمرُ}.
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف.
{وجُمِع الشمس والقمر} أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه؛ قاله الفراء والزجاج.
قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن المعنى جمع بينهما.
وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر.
وقال الكسائيّ: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان.
المبرد: التأنيث غير حقيقي.
وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مُكوّرين مظلمين مُقرنين كأنهما ثوران عقيران.
وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة (الأنعام).
وفي قراءة عبد الله {وجُمِع بيْن الشّمْسِ والْقمرِ} وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى.
وقال على وابن عباس: يجعلان في نور الحجب.
وقد يجمعان في نار جهنم؛ لأنهما قد عبِدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم.
وفي مسند أبي داود الطيالسيّ، عن يزيد الرقاشيّ، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدّة الحر؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم.
وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثمّ تعاقب ليل ولا نهار.
قوله تعالى: {يقول الإنسان يوْمئِذٍ أيْن المفر}؟ أي يقول ابن آدم، ويقال: أبو جهل؛ أي أين المهرب؟ قال الشاعر:
أين المفرُّ والكِباشُ تنتطِحْ ** وأيُّ كبْشٍ حاد عنها يفْتضِحْ

الماورديّ: ويحتمل وجهين: أحدهما {أيْن المفر} من الله استحياء منه.
الثاني {أيْن المفر} من جهنم حذرا منها.
ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما أن يكون من الكافر خاصة في عرْضة القيامة دون المؤمن؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه.
الثاني أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.
وقراءة العامة {الْمفرُّ} بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لأنه مصدر.
وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم؛ قال الكسائي: هما لغتان مثل مدبّ ومدِبّ، ومصحّ ومصِحّ.
وعن الزهريّ بكسر الميم وفتح الفاء.
المهدويّ: من فتح الميم والفاء من {المفر} فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفرّ إليه.
ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيّد الفرار؛ فالمعنى أين الإنسان الجيّد الفرار ولن ينجو مع ذلك.
قلت: ومنه قول امرئ القيس:
مِكرّ مِفرّ مُقْبِل مُدْبِرٍ معا

يريد أنه حسن الكرّ والفرّ جيِّده.
{كلاّ} أي لا مفرّ ف{كلاّ} ردٌّ وهو من قول الله تعالى، ثم فسر هذا الردّ فقال: {لا وزر} أي لا ملجأ من النار.
وكان ابن مسعود يقول: لا حِصن.
وكان الحسن يقول: لا جبل.
وابن عباس يقول: لا ملجأ.
وابن جُبير: لا محيص ولا منعة.
المعنى في ذلك كله واحد.
والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه من حِصن أو جبل أو غيرهما؛ قال الشاعر:
لعمْرِي ما لِلفتى مِن وزر ** مِن الموتِ يُدْرِكُه والكِبرْ

قال السُّديّ: كانوا في الدنيا إذا فزِعوا تحصّنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذ منّي؛ قال طرفة:
ولقدْ تعْلمُ بكْرٌ أنّنا فاضِلُوا ** الرّأْيِ وفِي الرّوْعِ وزر

أي ملجأ للخائف.
ويروى: وقْرٌ.
{إلى ربِّك يوْمئِذٍ المستقر} أي المنتهى؛ قاله قتادة.
نظيره: {وأنّ إلى ربِّك المنتهى} [النجم: 42].
وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع.
قيل: أي المستقرّ في الآخرة حيث يقرّه الله تعالى؛ إذ هو الحاكم بينهم.
وقيل: إن {كلاّ} من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفرّ قال لنفسه: {كلاّ لا وزر إلى ربِّك يوْمئِذٍ المستقر}.
قوله تعالى: {يُنبّأُ الإنسان} أي يخبر ابن آدم برّا كان أو فاجرا {بِما قدّم وأخّر}: أي بما أسلف من عمل سيّئ أو صالح، أو أخّر من سنّة سيّئة أو صالحة يُعْمل بها بعده؛ قاله ابن عباس وابن مسعود.
وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ أوّل عمله وآخره.
وقاله النخعيّ.
وقال ابن عباس أيضا: أي بما قدّم من المعصية، وأخّر من الطاعة.
وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: {بِما قدّم} من أمواله لنفسه {وأخّر}: خلّف للورثة.
وقال الضحاك: ينبأ بما قدّم من فرض، وأخّر من فرض.
قال القشيريّ: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال.
ويجوز أن يكون عند الموت.
قلت: والأوّل أظهر؛ لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهريّ، حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مما يلْحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته عِلما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورّث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» فقوله: «بعد موته وهو في قبره» نصّ على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشّر بذلك في قبره.
ودل على هذا أيضا قوله الحقّ: {وليحْمِلُنّ أثْقالهُمْ وأثْقالا مّع أثْقالهِمْ} [العنكبوت: 13] وقوله تعالى: {ومِنْ أوْزارِ الذين يُضِلُّونهُمْ بِغيْرِ عِلْمٍ} [النمل: 25] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال.
والله أعلم.
وفي الصحيح: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمِل بها بعده، من غير أن يُنقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»
قوله تعالى: {بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة}
قال الأخفش: جعله هو البصِيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
وقال ابن عباس: {بصِيرة} أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما.
والبصِيرة: الشاهد.
وأنشد الفرّاء:
كأنّ على ذي العقلِ عيْنا بصِيرة ** بمعقِده أو منْظرٍ هو ناظِرُهُ

يُحاذِرْ حتى يحسب الناس كلّهمْ ** من الخوفِ لا تخْفى عليهم سرائِرُهُ

ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ بِما كانُواْ يعْملُون} [النور: 24].
وجاء تأنيث البصِيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان؛ فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصِيرة؛ قال معناه القتبيّ وغيره.
وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: {بصِيرة} هي التي يسمِّيها أهل الإعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهِية وعلاّمة وراوية.
وهو قول أبي عُبيد.
وقيل المراد بالبصِيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر؛ يدل عليه قوله تعالى: {ولوْ ألقى معاذِيرهُ} فيمن جعل المعاذير السُّتور.
وهو قول السّديّ والضحاك.
وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصِيرة؛ أي شاهد فحذف حرف الجر.
ويجوز أن يكون {بصِيرة} نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصِيرة؛ وأنشد الفراء:
كأنّ على ذِي العقلِ عينا بصِيرة

وقال الحسن في قوله تعالى: {بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة} يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه.
{ولوْ ألقى معاذِيرهُ} أي ولو أرْخى سُتوره.
والسِّتر بلغة أهل اليمن: مِعذار؛ قاله الضحاك.
وقال الشاعر:
ولكنها ضنّتْ بِمنزِلِ ساعةٍ ** علينا وأطّتْ فوْقها بالْمعاذِرِ

قال الزجاج: المعاذِر: السُّور، والواحد مِعذار؛ أي وإن أرخى ستره؛ يريد أن يخفي عمله، فنفسه شاهدة عليه.
وقيل: أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذِّب عذره؛ قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جُبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفرّاء والسّديّ أيضا ومقاتل.
قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك.
نظيره قوله تعالى: {يوْم لا ينفعُ الظالمين معْذِرتُهُمْ} [غافر: 52] وقوله: {ولا يُؤْذنُ لهُمْ فيعْتذِرُون} [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر؛ قال الشاعر:
وإِياك والأمر الذي إنْ توسّعتْ ** موارِدُهُ ضاقتْ عليك المصادِرُ

فما حسنٌ أن يعْذِر المرءُ نفسهُ ** وليس له مِن سائِرِ الناسِ عاذر

واعتذر رجل إلى إبراهيم النّخعيّ فقال له: قد عذرتك غير مُعتذِر، إن المعاذِير يشُوبها الكذب.
وقال ابن عباس: {ولوْ ألقى معاذِيرهُ} أي لو تجرّد من ثيابه.
حكاه الماورديّ.
قلت: والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب؛ ومنه قول النابغة:
ها إِنّ ذِي عِذْرةٌ إِلاّ تكنْ نفعتْ ** فإنّ صاحِبها مُشارِكُ النّكدِ

والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار: {والله ربِّنا ما كُنّا مُشْرِكِين} [الأنعام: 23]، وقوله تعالى في المنافقين: {يوْم يبْعثُهُمُ الله جمِيعا فيحْلِفُون لهُ كما يحْلِفُون لكُمْ} [المجادلة: 18].
وفي الصحيح أنه يقول: «يا ربِّ آمنتُ بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصُمتُ وتصدّقتُ، ويُثني بخير ما استطاع» الحديث.
وقد تقدم في (حم السجدة) وغيرها.
والمعاذير والمعاذِر: جمع معْذرة؛ ويقال: عذرته فيما صنع أعذِره عُذْرا وعُذُرا، والاسم المعْذِرة والعُذْرى؛ قال الشاعر:
إنِّي حُدِدْتُ ولا عُذْرى لِمحْدُودِ

وكذلك العِذْرة وهي مثل الرِّكْبة والجِلْسة؛ قال النابغة:
ها إِنْ تاعِذْرةٌ إلاّ تكُنْ نفعتْ ** فإنّ صاحِبها قدْ تاه في الْبلدِ

وتضمّنت هذه الآية خمس مسائل:
الأولى قال القاضي أبو بكر بن العربيّ قوله تعالى: {بلِ الإنسان على نفسه بصِيرة ولوْ ألقى معاذِيرهُ}: فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه؛ لأنها بشهادة منه عليها؛ قال الله سبحانه وتعالى: {يوْم تشْهدُ عليْهِمْ ألْسِنتُهُمْ وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ بِما كانُواْ يعْملُون} [النور: 24] ولا خلاف فيه؛ لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه، وهي المسألة:
الثانية وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: {وإِذْ أخذ الله مِيثاق النبيين لمآ آتيْتُكُم مِّن كِتابٍ وحِكْمةٍ ثُمّ جاءكُمْ رسُولٌ مُّصدِّقٌ لِّما معكُمْ لتُؤْمِنُنّ به ولتنصُرُنّهُ قال أأقْررْتُمْ وأخذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أقْررْنا قال فاشهدوا وأناْ معكُمْ مِّن الشاهدين} [آل عمران: 81] ثم قال تعالى: {وآخرُون اعترفوا بِذُنُوبهمْ خلطُواْ عملا صالِحا وآخر سيِّئا} [التوبة: 102] وهو في الآثار كثير؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أُنيْس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقرّ فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقرّ إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطي الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده.
قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقرّ له الآخر أخذ المائة الآخرى فاستكمل حقّه وثبت نسبه.
وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرّت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثُّمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقرّ له من النساء.
الثالثة لا يصح الإقرار إلا من مكلّف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه؛ لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحقّ نفسه، فإن كان لحقّ غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز.
وبيانه في مسائل الفقه.
وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم.
والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ستّ: الصورة الأولى أن يقول له عندي شيء، قال الشافعي: لو فسّره بتمرة أو كِسرة قُبل منه.
والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قُبل منه وحلف عليه.
الصورة الثانية أن يفسِّر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يُقْبل باتفاق ولو ساعده عليه المقرّ له.
الصورة الثالثة أن يفسّره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سِرْقين أو كلب، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من ردّ وإمضاء فإن ردّه لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء لأن الحكم قد نفذ بإبطاله.
وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير؛ وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة: إذا قال له عليّ شيءٌ لم يقبل تفسيره إلا بِمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما.
وهذا ضعيف؛ فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا.
الصورة الرابعة إذا قال له: عندي مالٌ قُبِل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجيء من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثره منه.
الصورة الخامسة أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم؛ فقال الشافعيّ: يُقبل في الحبّة.
وقال أبو حنيفة: لا يُقبل إلا في نصاب الزكاة.
وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والدّية وأقله عندي نصاب السّرقة، لأنه لا يُبان عُضوُ المسلم إلا في مال عظيم.
وبه قال أكثر الحنفية.
ومن يعجب فيتعجّب لقول الليث بن سعد: إنه لا يُقبل في أقل من اثنين وسبعين ودرهما.
فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: {لقدْ نصركُمُ الله فِي مواطِن كثِيرةٍ ويوْم حُنيْنٍ} [التوبة: 25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين.
وهذا لا يصح؛ لأنه أخرج حُنيْنا منها، وكان حقّه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: {اذكروا الله ذِكْرا كثِيرا} [الأحزاب: 41]، وقال: {لاّ خيْر فِي كثِيرٍ مِّن نّجْواهُمْ} [النساء: 114]، وقال: {والعنهم لعْنا كبِيرا} [الأحزاب: 68].
الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة أو ألف، فإنه يُفسّرها بما شاء ويُقْبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يُفسِّر المبهم ويُقبل منه.
وبه قال الشافعيّ.
وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا؛ كقوله: مائة وخمسون درهما؛ لأن الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة.
وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعيّ: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويُفسِّر هو المائة بما شاء.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى: {ولوْ ألقى معاذِيرهُ} ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يُقبل منه.
وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقرّ في الحدود التي هي خالص حقّ الله؛ فقال أكثرهم منهم الشافعيّ وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار.
وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا.
والصحيح جواز الرجوع مطلقا؛ لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رد المقرّ بالزنى مرارا أربعا كل مرّة يُعرِض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «أبك جنون» قال: لا. قال: «أُحْصِنت» قال: نعم.
وفي حديث البخاريّ: «لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت» وفي النّسائيّ وأبي داود: حتى قال له في الخامسة «أجامعتها» قال: نعم. قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها» قال: نعم. قال: «كما يغيب المِرود في المُكْحلة والرِّشاء في البئر».
قال: نعم. قال: «هل تدري ما الزنى؟» قال: نعم؛ أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: «فما تريد مني»؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرُجم.
قال الترمذيّ: وأبو داود: فلما وجد مسّ الحجارة فرّ يشتد، فضربه رجل بلحْي جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلاّ تركتموه».
وقال أبو داود والنّسائي: ليتثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حدّ فلا.
وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله.
وفي قوله عليه السلام: «لعلك قبّلْت أو غمزت» إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.
الخامسة وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقرّ على بدنه، أو على ما في يده وذمته؛ فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه؛ لأن بدنه مستغرق لحقّ السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستْر الله، فإن من يُبْد لنا صفحته نُقِم عليه الحدّ».
المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي الدُّمْية في الآدمية، ولا حقّ للسيد فيها، وإنما حقّه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه؛ ألا ترى أنه لو أقرّ بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقرّ له.
وقال علماؤنا: السِّلْعة للسيد ويُتبع العبدُ بقيمتها إذا عتق؛ لأن مال العبد للسيد إجماعا، فلا يُقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، ولاسيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له.
ولا يصح أن يمْلِك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملّكه، ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين.
والله أعلم. اهـ.